الحسابات الخاطئة

فرانز اوليفيه جيزبر، الصحافي الفرنسي الشهير وأحب افتتاحية اسبوعية في مجلة لوبوان، قال في كتابه الأخير عن ”الجمهورية الخامسة الفرنسية“ إن "هلموت كول المستشار الالماني الغربي السابق الذي وحّد البلاد كان يتمتع بحس لمسار التاريخ. ومشروع توحيد الالمانيتان الذي لاقى بعض الخوف من قبل فرنسا وبريطانيا خاصة كان حدثا جيدا للشعب الالماني، اذ اصبحت المانيا قوى اقتصادية عالمية كبيرة ومركز الثقل الاوروبي ايضا. وهذا يعود لهذا الحس الذي تملّك هلموت كول."

والكلام عن الحس التاريخي يعيدني الى جلسة دعيت اليها مع بعض الصحافيين جمعتنا بمحمود عباس رئيس السلطة
الفلسطينية قبل اعوام حيث قال ان الخطأ الكبير الذي ارتكبه الفلسطينيون كان رفضهم لقرار الجمعية العامة للامم المتحدة تقسيم فلسطين الى دولة يهودية واخرى عربية يحصل فيها الفلسطينيون على ٤٢ بالماية من دولة اسرائيل القائمة حاليا تقع على الجليل الغربي، ومدينة عكا، والضفة الغربية، والساحل الجنوبي الممتد من شمال مدينة أسدود وجنوباً حتى رفح، مع جزء من الصحراء على طول الشريط الحدودي مع مصر.

والسؤال لو قبل الفلسطينيون بهذا القرار كم من دماء وقتل وحروب عبثية كان ممكن تفاديها؟ ولكن للاسف اتخاذ قرار بهذا الحجم كان بحاجة اولا الى التمتع بحس لمسار التاريخ، ثم القدرة على تفسير الاحداث ورسم افاقها. هذا لم يحدث حينها والثمن الذي يُدفع اليوم لفقدان هذا الحس لمسار التاريخ كبير جدا.

الشيء نفسه ينطبق على لبنان، وبعض قاداته الموارنة تحديدا والذين فقدوا قبلا ومازالو الاتصال مع الواقع ومواكبة تطور الاحداث في المنطقة. عند انتهاء ولاية الرئيس امين الجميل عام ١٩٨٨ جاء المبعوث الامريكي ريشارد مورفي ليقنع اللبنانيين عامة والموارنة خصوصا بضرورة انتخاب النائب ميخائيل الضاهر رئيسا للجمهورية لان الخيار الاخر هو الفوضى.
خيار الموارنة كان الفوضى ظنا منهم ان الولايات المتحدة والغرب لن يتخلى عنهم كونهم اقرب لها من حافظ الاسد مثلا، فدخلوا في حربين الاولى عرفت بحرب التحرير قادها قائد الجيش اللبناني وقتها ميشال عون ضد جيش حافظ الاسد متوعدا بتحرير لبنان من القوات العريبة على ارضه. هذه الحرب قادت الى حصار المناطق المسيحية وتدميرها. اما الحرب الثانية فعرفت بحرب الالغاء والتي قادها عون ايضا ضد ”القوات اللبنانية“ بحجة فرض سيطرت الدولة وحل الميليشيات.انتهت هذه المغامرة من الناحية العسكرية بدخول الجيش السوري الى المناطق المسيحية ومن الناحية السياسية بتعديل الدستور اللبناني وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني لصالح مجلس الوزراء.

ما اراد المستشار الامريكي ايصاله للقادة الموارنة وقتها هو ان ليس لديهم خيار الا تفادي مزيد من الحروب والقتل من خلال انتخاب الضاهر والشروع في تعديل الدستور اللبناني كما جاء في الطائف.
لو فهم البعض المسؤل انذاك معاني سقوط جدار برلين والاتحاد السوفياتي وتسيّد اميركا العالم لعقدين من الزمن تقريبا وتأثير انتهاء الحرب الباردة على التوازنات التي كانت قائمة على مختلف دول المنطقة خاصة تلك التي كانت تدور في الحرب الفلك السوفياتي لاسيما سوريا لفهم ان الخطوط الحمر التي كانت قائمة سقطت كلها وان اميركا لم تعد بحاجة الى وكلاء في المنطقة لاختار ميخائيل الضاهر وجنب لبنان عموما والمناطق المسيحية كل المآسي التي عاشتها.

للعودة الى حاضرنا نرى من خلال تصاريح بعض المسؤولين من النواب والمحللين والناشطين السياسيين المحسوبين على بعض الاحزاب المسيحية -عقب اغتيال المواطن اللبناني باسكال سليمان في منطقة جبيل على خلفية سرقة كما تدعي القوى الامنية المولجة بالتحقيق على يد شبان من الجنسية السورية، انفصالهم عن الواقع واستسهال الدعوة الى حرب اهلية من خلال استثارة الغرائز واستعادة محطات من هذه الحروب من دون التوقف عند نتائجها اساسا والتي لم تأتي لصالح من يدعو لها اليوم.
من هنا يبدو لي ان استمرار التواجد المسيحي في لبنان والمنطقة على مدى مئات السنين لم يكن كما يدعي البعض اليوم نتيجة نضال متخيّل ضد القوى الكبرى التي حكمت المنطقة انما استمرار هذا التواجد كان نتيجة تكيّف هذه المجموعة مع الواقع المستجد. التحييد عن هذه القاعدة دونه مخاطر.